بابتسامته الهادئة تلك دس رأسه بين الحشود وهو يتطلع شيئا فشيئا ليجد لنفسه مكانا في هذا العالم ، ظل يناضل ويحاول علّه يحقق شيئا مما عجز عنه الآخرون ، تقاذفته النظرات الى الكلمات الجارحة ولكنه ظل يبتسم غير آبه لما يسمعه او يحسه في اعين المارة ، بل ظل يرسم تلك الابتسامة ويرسمها دون جهد او زيف او تكلف .
ظل يتجول في أرجاء الموقف وهو يحمل بكلتا يديه الراجفتين قطع من الحلوى يمدها للمارة بأبتسامة عل أحدهم يعطف عليه ويشتري منه قطعة ولكن ....
في صباح يوم صيفي معتدل خرج أحدهم الى هذه الدنيا وهو يحمل في عينيه نظرة أمل ، تلك النظرة التي بفارقت عين والدته التي كانت تدرك ان هذا المخلوق قد خرج معاقا ، فظلت تحمل هما طيلة أيام حملها به وكأنها تحمل مسخا بشع الشكل ، ولم يك منها الا أن تتقبله لأنه ما جادة به السماء لها ، وما خرج من احشاءها .
تقبلت ذلك الأمر والألم يعتصر قلبها ، وهي تنظر الى ابناء جاراتها جميلي الخلقة ، واضحي المعالم والتفاصيل ثابتي الأرجل ، وهذا الطفل الذي يسيل لعابه في كل لحظة ويتدلى لسانه في لحظات آخرى وهو يتحرك بصعوبة لكأن هذه الأرض قد زرعت اشواكا .
كانت تنظر اليه وتخجل من هيأته في باديء الأمر ، ولكنها منه تعلمت كيف تحب ! كيف تضحي ! تعلمت المعنى الحقيقي لهذه الحياة ، وذلك عندما رأت ذلك القلب النقي ، وتلك العينين التي تكن في دواخلها الكثير من الحب ، حينها فقط أدركت ان الله وهبها أجمل مافي الحياة ، فتقبلته بالرغم من عدم تقبل الأخرين له ... ولكنها ظلت تقول هو سيد كل من ولدته أمه معافى .
كانت تخاف عليه كثيرا ، وذلك لأن المجتمع وكما نعرفه جميعا لا يرحم أحدا خصوصا اذا بدأ مختلفا عن الآخرين وا به علة مرضية خلقه الله بها ، فكأنت تمنعه احيانا من الخروج للعب في الشارع خوفا من ان يتسبب له احد فتيان الحي باذى . ولكنه لم يك يستمع لها في اغلب الاحيان بل كان يرى بما انه طفل ، فأن له الحق في ان يلهو كبقية الاطفال وان يعش حياته كما ينبغي ، فكان يخرج وهو يبتسم ، ولكأن لحظة خروجه من المنزل كطفل وليد خرج الى العالم للتو من بطن امه بتشوق وأمل .
كان قلما يشعر بانه مختلف عن الآخرين وكان ذلك العزاء الوحيد لوالدته التي بات يمثل لها الدنيا باكملها فكان حديثه بالنسبة لها خير من الطعام والشراب ، خصوصا في حالتهما تلك بعد ان انفصل عنها زوجها عقب ولادته .
مرت السنين على تلك الأم وكانت في كل يوم تزداد فخرا بابنها ، وكانت تتمنى كثيرا لو يستطع ان يتعلم كبقية الاطفال ، فقد كان متشجعا جدا لفكرة الدراسة اذ انه كان يأتي اليها بورقة وقلم ويضعه امامها فكانت تفهم انه يريد ان يدرس ولكن كيف وهي نفسها لا تعرف للكتابة شيئا .
وعندما بلغ الخامسة عشر توفت والدته وتركته وحيدا يبكي كل يوم منذ وفاتها ، فقد كان يشعر بالغربة والوحدة لأول مرة في حياته ، بات يرى العالم موحشا جدا ، واستطاع شيئا فشيئا ان يتعايش مع الحياة .
فخرج الى الشارع وكأنه يخرج لأول مرة ونظر الى المارة وظل يفسر كل تقاطيع وجوههم ونظراتهم وتعابيرهم المخفية ، استطاع أن يفهم كل التعابير التي مرت عليه وأن يكون لنفسه مباديء لم تتوفر لبعض الاشداء ، فخرج وهو على يقين بانه بمبادئه تلك سيحقق أفضل النتائج ، فكان يدخل الى السوق محاولا ان يجد لنفسه عملا ، فكان البعض يردعه ويرددون له بانه معاق وبأنه لا يصلح لان يعمل ، لم يك يهتم لذلك بل كان يعاود الكرة حتى يستسلم او يستسلمو هم ، ويتحرك باحثا عن ما ياكله ويكتفي بالقليل ويعود ادراجه ، اي الى المنزل الذي بات ينبض بالفقر والخواء ، لكأن الاشباح تسكنه لا انسان . وبمرور الوقت تمكن بعض اقربائه من أخذ المنزل منه وطرده بحجج قد تبدو منطقية لشخص في وضعه ، فما كان منه الا ان خرج تاركا خلفه رائحة أمه ذلك السبب الوحيد الذي يدفعه للحياة ، فخرج وهو يذرف دمعا دافئا معبقا بزكرى قد تبدو حزينة ولكنها دافئة .
وبمثابرته تلك استطاع ان يجد لنفسه عملا وهو بيع الحلوى للمارة ، فكان ياخذها في كيس ويقوم ببيعها للمارة الذين كان معظمهم يبدي تقززه او استياءه منه ، وهو لا يابه بل كان يستمر في الابتسام ، تلك الابتسامة التي تدعو للغوص عميقا عميقا جدا الى ابعد حدود الاحساس الذي يفترسك افتراسا فتجد نفسك قد خضعت له .
فكان يأخذ الأجر الذي يتحصل اليه الى صاحب الحلوى فكان يقوم بخداعه واعطائه مبلغا بسيطا جدا لا يساوي التعب الذي مر به ، فكان يأخذه دون تردد او تعقيب ويتجه صوب عمل آخر .
وفي اليوم التالي ياتي بابتسامته الهادئة تلك ، و يدس رأسه بين الحشود وهو يتطلع شيئا فشيئا ليجد لنفسه مكانا في هذا العالم ، وما ذال يناضل وهو يشعر بانه يحقق شيئا عجز عنه الآخرون ، برغم من ان النظرات تقاذفته الى الكلمات الجارحة ولكنه ظل يبتسم غير آبه لما يسمعه او يحسه في اعين المارة ، بل ظل يرسم تلك الابتسامة ويرسمها دون جهد او زيف او تكلف ، وما زال يسعى خلف المجد الذي يتمثل له في اعتماده على نفسه رغم اعاقته