الهجرة الثانية إلى الحبشة
فلما قرب مهاجرة الحبشة من مكة ، وبلغهم أمرهم توقفوا عن الدخول . ثم دخلكل رجل في جوار رجل من قريش . ثم اشتد عليهم البلاء والعذاب من قريش وسطتبهم عشائرهم وصعب عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره . فأذن لهم رسولالله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى الحبشة مرة ثانية . فخرجوا .
وكان عدة من خرج في المرة الثانية ثلاثة وثمانين رجلا - إن كان فيهم عمار ابن ياسر - ومن النساء تسعة عشر امرأة .
فلما سمعوا بمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة : رجع منهمثلاثة وثلاثون رجلا ، ومن النساء ثمان . ومات منهم رجلان بمكة . وحبس سبعة. وشهد بدرا منهم أربعة وعشرون رجلا .
إسلام حمزة بن عبد المطلب
وفي السنة السادسة أسلم حمزة بن عبد المطلب وعمر .
قال ابن إسحاق : مر أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا :فآذاه ونال منه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت . فقام رسول الله صلىالله عليه وسلم ودخل المسجد . وكانت مولاة لعبد الله بن جعدان في مسكن لهاعلى الصفا ، تسمع ما يقول أبو جهل . وأقبل حمزة من القنص متوشحا قوسه .وكان يسمى : أعز قريش . فأخبرته مولاة ابن جدعان بما سمعت من أبي جهل .فغضب . ودخل المسجد - وأبو جهل جالس في نادي قومه - فقال له حمزة يا مصفراسته . تشتم ابن أخي وأنا على دينه ؟ ثم ضربه بالقوس فشجه موضحة . فثاررجال من بني مخزوم . وثار بنو هاشم . فقال أبو جهل دعوا أبا عمارة . فإنيسببت ابن أخيه سبا قبيحا . فعلمت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدعز . فكفوا عنه بعض ما كانوا ينالون منه .
--------------------------------------------------------------------------------
إسلام عمر رضي الله عنه
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم أعز الإسلام بأحبالرجلين إليك : إما عمر بن الخطاب . أو أبي جهل بن هشام فكان أحبهما إلىالله عمر رضي الله عنه .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه قال لعمر رضي الله عنه لم سميتالفاروق ؟ فقال أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام . ثم شرح الله صدري للإسلام .وأول شيء سمعته من القرآن ووقر في صدري ( 20 : 8 ) الله لا إله إلا هو لهالأسماء الحسنى فما في الأرض نسمة أحب إلي من نسمة رسول الله صلى اللهعليه وسلم . فسألت عنه ؟ فقيل لي : هو في دار الأرقم . فأتيت الدار -وحمزة في أصحابه جلوسا في الدار . ورسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت- فضربت الباب فاستجمع القوم . فقال لهم حمزة ما لكم ؟ فقالوا : عمر فخرجرسول الله صلى الله عليه وسلم . فأخذ بمجامع ثيابي . ثم نترني نترة لمأتمالك أن وقعت على ركبتي . فقال ما أنت بمنته يا عمر ؟ فقلت : أشهد أن لاإله إلا الله ، وأنك رسول الله فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد .فقلت : يا رسول الله ألسنا على الحق إن متنا أو حيينا ؟ قال بلى . فقلت :ففيم الاختفاء ؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن ، فخرجنا في صفين . حمزة في صف .وأنا في صف - له كديد ككديد الطحن - حتى دخلنا المسجد . فلما نظرت إليناقريش أصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها قط . فسماني رسول الله صلى الله عليهوسلم الفاروق .
وقال صهيب لما أسلم عمر رضي الله عنه جلسنا حول البيت حلقا ، فطفنا واستنصفنا مما غلظ علينا .
حماية أبي طالب لرسول الله
ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزايد أمره ويقوى ، ورأواما صنع أبو طالب به . مشوا إليه بعمارة بن الوليد . فقالوا : يا أبا طالب، هذا أنهد فتى في قريش وأجمله . فخذه وادفع إلينا هذا الذي خالف دينكودين آبائك فنقتله فإنما هو رجل برجل . فقال بئسما تسومونني ، تعطونيابنكم أربيه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه ؟ فقال المطعم بن عدي بن نوفل : ياأبا طالب قد أنصفك قومك ، وجهدوا على التخلص منك بكل طريق . قال والله ماأنصفتموني ، ولكنك أجمعت على خذلاني . فاصنع ما بدا لك .
وقال أشراف مكة لأبي طالب إما أن تخلي بيننا وبينه فنكفيكه . فإنك على مثلما نحن عليه أو أجمع لحربنا . فإنا لسنا بتاركي ابن أخيك على هذا ، حتىنهلكه أو يكف عنا ، فقد طلبنا التخلص من حربك بكل ما نظن أنه يخلص . فبعثأبو طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له يا ابن أخي ، إن قومكجاءوني ، وقالوا كذا وكذا ، فأبق علي وعلى نفسك ، ولا تحملني ما لا أطيقأنا ولا أنت . فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك . فقال صلى الله عليه وسلموالله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ، ما تركت هذا الأمر حتىيظهره الله أو أهلك في طلبه فقال امض على أمرك ، فوالله لا أسلمك أبداودعا أبو طالب أقاربه إلى نصرته فأجابه بنو هاشم وبنو المطلب ، غير أبيلهب ، وقال أبو طالب
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
وأبشر وقر بذاك منك عيونا
ودعوتني ، وعرفت أنك ناصحي
ولقد صدقت ، وكنت ثم أمينا
وعرضت دينا قد عرفت بأنه
من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة
لوجدتني سمحا بذاك مبينا
--------------------------------------------------------------------------------
موت خديجة وأبي طالب
وماتت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بعد موت أبي طالب بأيام . فاشتدالبلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه بعد موت خديجة وعمهوتجرءوا عليه وكاشفوه بالأذى . وأرادوا قتله . فمنعهم الله من ذلك .
قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما " حضرتهم . وقد اجتمعأشرافهم في الحجر . فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالوا : مارأينا مثل صبرنا عليه سفه أحلامنا . وشتم آباءنا . وفرق جماعتنا ، فبينماهم في ذلك . إذ أقبل . فاستلم الركن . فلما مر بهم غمزوه " . وفي حديث أنهقال لهم في الثانية لقد جئتكم بالذبح وأنهم قالوا له يا أبا القاسم ما كنتجهولا . فانصرف راشدا .
فلما كان من الغد اجتمعوا فقالوا : ذكرتم ما بلغ منكم حتى إذا أتاكم بماتكرهون تركتموه . فبينما هم كذلك . إذ طلع عليهم فقالوا : قوموا إليه وثبةرجل واحد . فلقد رأيت عقبة بن أبي معيط آخذا بمجامع ردائه وقام أبو بكردونه وهو يبكي . يقول أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ؟ . وفي حديث أسماءفأتى الصريخ إلى أبي بكر . فقالوا : أدرك صاحبك ، فخرج من عندنا وله غدائرأربع فخرج وهو يقول ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ؟ فلهوا عنهوأقبلوا على أبي بكر . فرجع إلينا لا يمس شيئا من غدائر إلا رجع معه .
ومرة كان يصلي عند البيت ، ورهط من أشرافهم يرونه فأتى أحدهم بسلا جزور .فرماه على ظهره . وكانوا يعلمون صدقه وأمانته . وأن ما جاء به هو الحق .لكنهم كما قال الله تعالى ( 6 : 33 ) فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمينبآيات الله يجحدون
وذكر الزهري : أن أبا جهل . وجماعة معه وفيهم الأخنس بن شريق ، استمعواقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل فقال الأخنس لأبي جهل يا أباالحكم : ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال تنازعنا نحن وبنو عبد منافالشرف أطعموا فأطعمنا . وحملوا فحملنا . وأعطوا فأعطينا . حتى إذا تجاثيناعلى الركب وكنا كفرسي رهان . قالوا : ما نبي يأتيه الوحي من السماء فمتىندرك هذا ؟ والله لا نسمع له أبدا . ولا نصدقه أبدا " .
وفي رواية " إني لأعلم أن ما يقول حق ، ولكن بني قصي قالوا : فينا الندوةفقلنا : نعم . قالوا : وفينا الحجابة فقلنا : نعم . قالوا : فينا السقاية. فقلنا : نعم . وذكر نحوه " .
خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف
ولما اشتد البلاء من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت عمهخرج إلى الطائف ، رجاء أن يؤوه وينصروه على قومه ويمنعوه منهم حتى يبلغرسالة ربه . ودعاهم إلى الله عز وجل فلم ير من يؤوي ولم ير ناصرا ، وآذوهأشد الأذى . ونالوا منه ما لم ينل قومه . وكان معه زيد بن حارثة مولاه .فأقام بينهم عشرة أيام . لا يدع أحدا من أشرافهم إلا كلمه فقالوا : اخرجمن بلدنا . وأغروا به سفهاءهم . فوقفوا له سماطين . وجعلوا يرمونهبالحجارة وبكلمات من السفه هي أشد وقعا من الحجارة . حتى دميت قدماه وزيدبن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شجاج في رأسه فانصرف إلى مكة محزونا .
وفي مرجعه دعا بالدعاء المشهور اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي، وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيديتجهمني ، أو إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، غيرأن عافيتك هي أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليهأمر الدنيا والآخرة أن يحل علي غضبك ، أو ينزل بي سخطك . لك العتبى حتىترضى . ولا حول ولا قوة إلا بك فأرسل ربه تبارك وتعالى إليه ملك الجباليستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة - وهما جبلاها اللذان هي بينهما -فقال بل أستأني بهم . لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك بهشيئا
فلما نزل بنخلة في مرجعه قام يصلي من الليل ما شاء الله فصرف الله إليهنفرا من الجن . فاستمعوا قراءته ولم يشعر بهم رسول الله صلى الله عليهوسلم حتى نزل عليه ( 46 : 28 - 32 ) وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن - إلىقوله - أولئك في ضلال مبين وأقام بنخلة أياما . فقال زيد بن حارثة رضيالله عنه كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك ؟ - يعني قريشا - فقال يا زيد إن اللهجاعل لما ترى فرجا ومخرجا . وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه .
ثم انتهى إلى مكة . فأرسل رجلا من خزاعة إلى المطعم بن عدي أدخل في جوارك؟ فقال نعم . فدعا المطعم بنيه وقومه فقال البسوا السلاح وكونوا عند أركانالبيت . فإني قد أجرت محمدا . فلا يهجه أحد . فانتهى رسول الله صلى اللهعليه وسلم إلى الركن فاستلمه . وصلى ركعتين . وانصرف إلى بيته والمطعم بنعدي وولده محدقون به في السلاح حتى دخل بيته .
--------------------------------------------------------------------------------
الإسراء والمعراج
ثم أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت القدس راكبا على البراقصحبة جبريل عليه السلام . فنزل هناك . وصلى بالأنبياء إماما . وربط البراقبحلقة باب المسجد . ثم عرج به إلى السماء الدنيا . فرأى فيها آدم . ورأىأرواح السعداء عن يمينه والأشقياء عن شماله . ثم إلى الثانية . فرأى فيهاعيسى ويحيى . ثم إلى الثالثة . فرأى فيها يوسف . ثم إلى الرابعة . فرأىفيها إدريس . ثم إلى الخامسة . فرأى فيها هارون . ثم إلى السادسة . فرأىفيها موسى . فلما جاوزه بكى . فقيل له ما يبكيك ؟ قال أبكي أن غلاما بعثبعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي . ثم عرج به إلى السماءالسابعة . فلقي فيها إبراهيم . ثم إلى سدرة المنتهى . ثم رفع إلى البيتالمعمور . فرأى هناك جبريل في صورته له ستمائة جناح وهو قوله تعالى ( 53 :13 - 14 ) ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى وكلمه ربه وأعطاه ما أعطاه. وأعطاه الصلاة . فكانت قرة عين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبحرسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه وأخبرهم اشتد تكذيبهم له وسألوه أنيصف لهم بيت المقدس . فجلاه الله له حتى عاينه . وجعل يخبرهم به . ولايستطيعون أن يردوا عليه شيئا . وأخبرهم عن عيرهم التي رآها في مسراهومرجعه وعن وقت قدومها ، وعن البعير الذي يقدمها . فكان كما قال . فلميزدهم ذلك إلا ثبورا . وأبى الظالمون إلا كفورا .
بعض خصائص رسول الله
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه في الحرب على أن لا يفرواوربما بايعهم على الموت . وربما بايعهم على الجهاد . وربما بايعهم علىالإسلام .
وبايعهم على الهجرة قبل الفتح .
وبايعهم على التوحيد والتزام طاعة الله ورسوله .
وبايع نفرا من أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئا . فكان السوط يسقط من أحدهم . فينزل فيأخذه ولا يسأل أحدا أن يناوله إياه .
وكان يبعث البعوث يأتونه بخبر عدوه . ويطلع الطلائع ويبث الحرث والعيون ، حتى لا يخفى عليه من أمر عدوه شيء .
وكان إذا لقى عدوه دعا الله واستنصر به وأكثر هو وأصحابه من ذكر الله والتضرع له .
وكان كثير المشاورة لأصحابه في الجهاد .
وكان يتخلف في ساقتهم . فيزجي الضعيف ويردف المنقطع .
وكان إذا أراد غزوة ورى بغيرها .
وكان يرتب الجيش والمقاتلة ويجعل في كل جنبة كفؤا لها . وكان يبارز بينيديه بأمره . وكان يلبس للحرب عدته . وربما ظاهر بين درعين كما فعل يومبدر . وكان له ألوية .
وكان إذا ظهر على قوم أقام بعرصتهم ثلاثا ثم قفل
وكان إذا أراد أن يغير ينتظر . فإذا سمع مؤذنا لم يغر وإلا أغار .
وكان يجب الخروج يوم الخميس بكرة . وكان إذا اشتد البأس اتقوا به وكان أقربهم إلى العدو .
وكان يحب الخيلاء في الحرب . وينهي عن قتل النساء والولدان . وينهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو .