قصص الأولين والآخرين
ومن أوضح ما يكون لذوي الفهم : قصص الأولين والآخرين . قصص من أطاع الله وما فعل بهم ، وقصص من عصاه ، وما فعل بهم ، فمن لم يفهم ذلك ، ولم ينتفع به فلا حيلة فيه ، كما قال تعالى : " وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص " .
وقال بعض السلف : القصص جنود الله، يعني أن المعاند لا يقدر يردها . فأول ذلك : ما قص الله سبحانه عن آدم ، وإبليس ، إلى أن هبط آدم ، وزوجه إلى الأرض ، ففيها من إيضاح المشكلات ما هو واضح لمن تأمله . وآخر القصة قوله تعالى : " قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " وفي الآية الأخرى : " فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا " إلى قوله : " ولعذاب الآخرة أشد وأبقى " .
وهداه الذي وعدنا به : هو إرساله الرسل . وقد وفى بما وعد سبحانه ، فأرسل الرسل مبشرين ومنذرين ، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل . فأولهم : نوح ، وآخرهم : نبينا صلى الله عليه وسلم .
فاحرص يا عبد الله على معرفة هذا الحبل ، الذي بين الله وبين عباده ، الذي من استمسك به سلم ، ومن ضيعه عطب . فاحرص على معرفة ما جرى لأبيك آدم ، وعدوك إبليس ، وما جرى لنوح وقومه ، وهود وقومه ، وصالح وقومه ، وإبراهيم وقومه ، ولوط وقومه ، وموسى وقومه ، وعيسى وقومه ومحمد صلى الله عليه وسلم وقومه .
واعرف ما قص أهل العلم من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وقومه ، وما جرى له معهم في مكة ، وما جرى له في المدينة . واعرف ما قص العلماء عن أصحابه ، وأحوالهم ، وأعمالهم ، لعلك أن تعرف الإسلام والكفر ، فإن الإسلام اليوم غريب ، وأكثر الناس لا يميز بينه وبين الكفر ، وذلك هو الهلاك الذي لا يرجى معه فلاح
قصة آدم وإبليس
وأما قصة آدم ، وإبليس : فلا زيادة على ما ذكر الله في كتابه . ولكن قصة ذريته ، فأول ذلك : أن الله أخرجهم من صلبه أمثال الذر ، وأخذ عليهم العهود ، أن لا يشركوا به شيئاً ، كما قال تعالى : " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا " .
"ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج ، ورأى فيهم رجلاً من أنورهم ، فسأله عنه ؟ فأعلمه أنه داود . فقال : كم عمره ؟ قال : ستون سنة ، قال : وهبت له من عمري أربعين سنة ، وكان عمر آدم ألف سنة . ورأى فيهم الأعمى ، والأبرص ، والمبتلى. قال : يا رب، لم لا سويت بينهم ؟ قال : إني أحب أن أشكر. فلما مضى من عمر آدم ألف سنة إلا أربعين ، أتاه ملك الموت . فقال : إنه بقي من عمري أربعون سنة ، فقال : إنك وهبتها لابنك داود . فنسي آدم ، فنسيت ذريته ، وجحد آدم ، فجحدت ذريته" .
فلما مات أدم ، بقي أولاده بعده عشرة قرون على دين أبيهم ، دين الإسلام ، ثم كفروا بعد ذلك . وسبب كفرهم : الغلو في حب الصالحين ، كما ذكر الله تعالى في قوله : " وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا " وذلك أن هؤلاء الخمسة قوم صالحون كانوا يأمرونهم وينهونهم ، فماتوا في شهر ، فخاف أصحابهم من نقص الدين بعدهم ، فصوروا صورة كل رجل في مجلسه ، لأجل التذكرة بأقوالهم وأعمالهم إذا رأوا صورهم ، ولم يعبدوهم . ثم طال الزمان ، ومات أهل العلم ، فلما خلت الأرض من العلماء ألقى الشيطان في قلوب الجهال : "أن أولئك الصالحين ما صوروا صور مشايخهم إلا ليستشفعوا بهم إلى الله ، فعبدوهم" .
قصة نوح عليه السلام
فلما فعلوا ذلك أرسل الله إليهم نوحاً عليه السلام ، ليردهم إلى دين آدم وذريته ، الذين مضوا قبل التبديل ، فكان من أمرهم ماقص الله في كتابه ، ثم عمر نوح وأهل السفينة الأرض ، وبارك الله فيهم ، وانتشروا في الأرض أمماً وبقوا على الإسلام مدة لا ندري ما قدرها ؟
ثم حدث الشرك ، فأرسل الله الرسل ، وما من أمة إلا وقد بعث الله فيها رسولاً يأمرهم بالتوحيد ، وينهاهم عن الشرك ، كما قال تعالى : " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " ، وقال تعالى " ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه " الآية .
ولما ذكر القصص في سورة الشعراء ختم كل قصة بقوله " إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين " ، فقص الله سبحانه ما قص لأجلنا ، كما قال تعالى : " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى " الآية .
ولما أنكر الله على أناس من هذه الأمة ، في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أشياء فعلوها ، قال : " ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين " الآية ، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على أصحابه قصص من قبلهم ، ليعتبروا بذلك . وكذلك أهل العلم في نقلهم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جرى له مع قومه ، وما قال لهم ، وما قيل له . وكذلك نقلهم سيرة الصحابة ، وما جرى لهم مع الكفار والمنافقين ، وذكرهم أحوال العلماء بعدهم ، كل ذلك لأجل معرفة الخير والشر .
إذا فهمت ذلك ، فاعلم : أن كثيراً من الرسل وأممهم لا نعرفهم ، لأن الله لم يخبرنا عنهم، لكن أخبرنا عن عاد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد ، فبعث الله إليهم هوداً عليه السلام ، فكان من أمرهم ما قص الله في كتابه ، وبقي التوحيد في أصحاب هود إلى أن عدم بعد مدة ، لا ندري كم هي ، وبقي في أصحاب صالح ، إلى أن عدم بعد مدة لا ندري كم هي ؟
قصة إبراهيم عليه السلام
ثم بعث الله إبراهيم -عليه السلام- وليس على وجه الأرض يومئذ مسلم ، فجرى عليه من قومه ما جرى ، وآمنت به امرأته سارة . ثم أمن له لوط -عليه السلام- ومع هذا نصره الله ، ورفع قدره وجعله إماماً للناس ، ومنذ ظهر إبراهيم -عليه السلام- لم يعدم التوحيد في ذريته ، كما قال تعالى : " وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون " ، فإذا كان هو الإمام ، فنذكر شيئاً من أحواله لا يستغني مسلم عن معرفتها ، فنقول : في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"لم يكذب إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم قط ، إلا ثلاث كذبات : ثنتين منهن في ذات الله، قوله : " إني سقيم "، وقوله : " بل فعله كبيرهم هذا ". وواحدة في شأن سارة ، فإنه قدم أرض جبار ، ومعه سارة ، وكانت من أحسن الناس ، فقال لها : إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك ، فإن سألك فأخبريه أنك أختي ، فإنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك. فلما دخل أرضه رأها بعض أهل الجبار فأتاه ، فقال : لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلا لك. فأرسل إليها ، فأتي بها. فقام إبراهيم إلى الصلاة ، فلما دخلت عليه ، لم يتمالك أن بسط يده إليها ، فقبضت يده قبضة شديدة ، فقال لها : دعي الله أن يطلق يدي ، فلك الله أن لا أضرك. ففعلت ، فعاد . فقبضت يده أشد من القبضة الأولى ، فقال لها مثل ذلك ، فعاد . فقبضت يده أشد من القبضتين الأوليين ، فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي ، ولك الله أن لا أضرك . ففعلت فأطلقت يده . ودعا الذي جاء بها ، فقال : إنك إنما جئتني بشيطان، ولم تأتني بإنسان . فأخرجها من أرضي ، وأعطاها هاجر . فأقبلت ، فلما رآها إبراهيم ، انصرف . فقال لها : مهيم ؟ قالت : خيراً ، كف الله يد الفاجر ، وأخدم خادماً". قال أبو هريرة : فتلك أمكم يا بني ماء السماء .
وللبخاري : "أن إبراهيم لما سئل عنها ؟ قال : هي أختي ، ثم رجع إليها فقال : لا تكذبي حديثي ، فإني أخبرتهم أنك أختي والله ما على الأرض مؤمن غيري وغيرك . فأرسل بها إليه فقام إليها ، فقامت تتوضأ وتصلي . فقالت : اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك ، وأحصنت فرجي إلا على زوجي ، فلا تسلط علي يد الكافر . فغط حتى ركض برجله الأرض ، فقالت : اللهم إن يمت ، يقال : هي قتلته ، فأرسل ، ثم قام إليها ، فقامت تتوضأ وتصلي ، وتقول : اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك ، وأحصنت فرجي إلا على زوجي ، فلا تسلط علي هذا الكافر . فغط حتى ركض برجله ، فقالت : اللهم ثم إن يمت يقال : هي قتلته . فأرسل في الثانية ، أو الثالثة ، فقال : والله ما أرسلتم إلي إلا شيطاناً ، أرجعوها إلى إبراهيم ، وأعطوها هاجر . فرجعت إلى إبراهيم ، فقالت : أشعرت ؟ إن الله كبت الكافر ، وأخدم وليدة" وكان عليه السلام في أرض العراق ، وبعدما جرى عليه من قومه ما جرى هاجر إلى الشام ، واستوطنها ، إلى أن مات فيها . وأعطته سارة الجارية التي أعطاها الجبار ، فواقعها . فولدت له إسماعيل عليه السلام ، فغارت سارة ، فأمره الله بإبعادها عنها ، فذهب بها وبإبنها فأسكنهما في مكة . ثم بعد ذلك وهب الله له ولسارة إسحاق عليه السلام ، كما ذكر الله بشارة الملائكة له ولها بإسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب .
وفي الصحيح عن ابن عباس ، قال : "لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان ، خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ، ومعه شنة فيها ماء ، فجعلت أم اسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها ، حتى قدم مكة. فوضعها تحت دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد -وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء- ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء . ثم قفى إبراهيم منطلقاً ، فتبعته أم إسماعيل ، فلما بلغوا كداء ، نادته من ورائه : يا إبراهيم ! أين تذهب ، وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شئ ؟ فقالت له ذلك مراراً ، وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له : الله الذي أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قالت : إذن لا يضيعنا وفي لفظ : إلى من تكلنا ؟ قال : إلى الله . قالت : رضيت ، ثم رجعت . فانطلق إبراهيم ، حتى إذا كان عند الثنية ، حيث لا يرونه ، استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ، ورفع يديه فقال : " ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون "، وجعلت أم إسماعيل ترضعه وتشرب من الشنة ، فيدر لبنها على صبيها ، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت ، وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى -أو قال : يتلبط- فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل إليها ، فقامت واستقبلت الوادي تنظر : هل ترى أحداً ؟ فلم تر أحداً ، فهبطت من الصفا ، حتى إذا بلغت الوادي ، رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود ، حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة ، فقامت عليها ، فنظرت هل ترى أحداً ؟ فلم تر أحداً ، ففعلت ذلك سبع مرات قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم :فذلك سعي الناس بينهما - ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل -تعني الصبي- فذهبت فنظرت ، فإذا هو على حاله ، كأنه ينشغ للموت ، فلم تقرها نفسها. فقالت : لو ذهبت لعلي أحس أحداً ؟ فذهبت فصعدت الصفا ، فنظرت فلم تحسن أحداً ، حتى أتمت سبعاً ، ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل؟ فإذا هي بصوت، فقالت : أغث إن كان عندك خير . فإذا بجبريل ، قال : فقال بعقبه على الأرض ، فانبثق الماء فذهبت أم إسماعيل ، فجعلت تحفر، فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : يرحم الله أم إسماعيل ، لو تركت زمزم -أو قال : لو لم تغرف من الماء- لكانت زمزم عيناً معيناً- وفي حديثه : فجعلت تغرف الماء في سقائها- قال : فشربت ، وأرضعت ولدها . فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة، فإن ها هنا بيتاً لله ، يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله . وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالزابية ، تأتيه السيول ، فتأخذ عن يمينه وشماله ، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم ، مقبلين من طريق كداء ، فرأوا طائراً عائفاً، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء ، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا جرياً ، أو جريين فإذا هم بالماء ، فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا ، وقالوا لأم إسماعيل : أتاذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت : نعم ، ولكن لا حق لكم في الماء ، قالوا : نعم - قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس - فنزلوا ، وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم ، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم ، وشب الغلام ، وتعلم العربية منهم . وأنفسهم وأعجبهم حين شب ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم ، وماتت أم إسماعيل . وجاء إبراهيم - بعدما تزوج إسماعيل - يطالع تركته فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه ؟ فقالت : خرج يبتغي لنا ، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم ؟ فقالت : نحن بشر ، نحن في ضيق وشدة ، فشكت إليه . قال : فإذا جاء زوجك أقرئي عليه السلام ، وقولي له : يغير عتبة بابه . فلما جاء إسماعيل ، كأنه آنس شيئاً ، فقال : هل جاءكم من أحد ؟ قالت : نعم جاءنا شيخ -كذا وكذا- فسألنا عنك ؟ فأخبرته . وسألني : كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة ، قال: فهل أوصاك بشئ ؟ قالت : نعم ، أمرني أن أقرأ عليك السلام ، ويقول : غير عتبة بابك ، قال : ذاك أبي ، وقد أمرني أن أفارقك ، الحقي بأهلك . فطلقها وتزوج منهم امرأة أخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ، فقال لأهله : إني مطلع تركتي ، فجاء فقال لامرأته : أين إسماعيل ؟ قالت : ذهب يصيد . قالت : ألا تنزل فتطعم ، وتشرب؟ قال: وما طعامكم وما شرابكم ؟ قالت : طعامنا اللحم ، وشرابنا الماء . قال : اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم - قال : فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم بركة دعوة إبراهيم، فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ولم يكن لهم يومئذ حب . ولو كان لهم حب دعا لهم فيه - وسألها عن عيشهم وهيئتهم ؟ فقالت : نحن بخير وسعة وأثنت على الله ، قال : إذا جاء زوجك ، فاقرئي عليه السلام ، ومريه يثبت عتبة بابه . فلما جاء إسماعيل قال : هل آتاكم من أحد ؟ قالت : نعم ، شيخ حسن الهيئة -وأثنت عليه- فسألني عنك ؟ فأخبرته فسألني : كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنا بخير . قال : هل أوصاك بشئ ؟ قالت : نعم ، هو يقرأ عليك السلام ، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك . قال : ذاك أبي ، وأنت العتبة ، أمرني أن أمسكك . ثم لبث عنهم ما شاء الله ، فقال لأهله : إني مطلع تركتي ، فجاء ، فوافق إسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم ، فلما رآه قام إليه ، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد ، والولد بالوالد ، ثم قال : يا إسماعيل ! إن الله أمرني بأمر ، قال : فاصنع ما أمرك ربك . قال : وتعينني ؟ قال : وأعينك . قال : فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتاً -وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها - قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت . فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان : " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " "، هذا آخر حديث ابن عباس
ولاية البيت ومكة لإسماعيل عليه السلام ، ثم لذريته من بعده
فصارت ولاية البيت ومكة لإسماعيل ، ثم لذريته من بعده وانتشرت ذريته في الحجاز وكثروا ، وكانوا على الإسلام دين إبراهيم وإسماعيل قروناً كثيرة . ولم يزالوا على ذلك حتى كان في آخر الدنيا : نشأ فيهم عمرو بن لحي ، فابتدع الشرك ، وغير دين إبراهيم ، وتأتي قصته إن شاء الله .
وأما إسحاق عليه السلام فإنه بالشام ، وذريته : هم بنو إسرائيل والروم . أما بنو إسرائيل : فأبوهم يعقوب عليه السلام ابن إسحاق ، ويعقوب هو إسرائيل . وأما الروم ، فأبوهم : عيص بن إسحاق .
ومما أكرم الله به إبراهيم عليه السلام : أن الله لم يبعث بعده نبياً إلا من ذريته ، كما قال تعالى : " وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب " ، وكل الأنبياء والرسل من ذرية إسحاق . وإما إسماعيل : فلم يبعث من ذريته إلا نببنا محمداً صلى الله عليه وسلم ، بعثه الله إلى العالمين كافة . وكان من قبله من الأنبياء كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وفضله الله على جميع الأنبياء بأشياء غير ذلك.
قصة عمرو بن لحي وتغييره دين إبراهيم عليه السلام
وأما قصة عمرو بن لحي ، وتغييره دين إبراهيم : فإنه نشأ على أمر عظيم من المعروف والصدقة ، والحرص على أمور الدين ، فأحبه الناس حباً عظيماً ، ودانوا له لأجل ذلك ، حتى ملكوه عليهم ، وصار ملك مكة وولاية البيت بيده ، وظنوا أنه من أكابر العلماء ، وأفاضل الأولياء . ثم إنه سافر إلى الشام ، فرأهم يعبدون الأوثان ، فاستحسن ذلك وظنه حقاً ، لأن الشام محل الرسل والكتب ، فلهم الفضيلة بذلك على أهل الحجاز وغيرهم ، فرجع إلى مكة ، وقدم معه بهبل ، وجعله في جوف الكعبة ، ودعا أهل مكة إلى الشرك بالله ، فأجابوه . وأهل الحجاز في دينهم تبع لأهل مكة ، لأنهم ولاة البيت وأهل الحرم . فتبعهم أهل الحجازعلى ذلك ، ظناً أنه الحق . فلم يزالوا على ذلك حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بدين إبراهيم عليه السلام ، وإبطال ما أحدثه عمرو بن لحي .
وكانت الجاهلية على ذلك ، وفيهم بقايا من دين إبراهيم لم يتركوه كله ، وأيضاً يظنون أن ما هم عليه ، وأن ما أحدثه عمرو بدعة حسنة ، لا تغير دين إبراهيم . وكانت تلبية نزار : لبيك ، لا شريك لك ، إلا شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك ، فأنزل الله تعالى : " ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون " .
ومن أقدم أصنامهم مناة وكان منصوباً على ساحل البحر بقديد ، تعظمه العرب كلها ، لكن الأوس والخزرج كانوا أشد تعظيماً له من غيرهم . وبسبب ذلك أنزل الله تعالى : " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " .
ثم اتخذوا اللات في الطائف ، وقيل : إن أصله رجل صالح كان يلت السويق للحاج ، فمات فعكفوا على قبره . ثم اتخذو العزى بوادي نخلة ، بين مكة والطانف ، فهذه الثلاثة أكبر أوثانهم .
ثم كثر الشرك ، وكثرت الأوثان في بقعة من الحجاز ، وكان لهم أيضاً بيوت يعظمونها كتعظيم الكعبة ، وكانوا كما قال تعالى : " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين " .
ولما دعاهم رسول الله إلى الله اشتد إنكار الناس له ، علماؤهم وعبادهم ، وملوكهم وعامتهم ، حتى إنه لما دعا رجلاً إلى الإسلام قال له : من معك على هذا ؟ قال : حر وعبد، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال رضي الله عنهما .
حديث " لتتبعن سنن من كان قبلكم . . . "
وقوله : "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه . قالوا : يا رسول الله ! اليهود والنصارى ؟ قال : فمن" .
وقوله : "ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة".
فهذه المسألة أجل المسائل ، فمن فهمها فهو الفقيه . ومن عمل بها فهو المسلم ، فنسأل الله الكريم المنان أن يتفضل علينا وعليكم بفهمها والعمل بها .
بناء بيت الله الحرام
أما البيت المحرم : فإن إبراهيم واسماعيل -عليهما السلام- لما بنياه ، صارت ولايته في إسماعيل وذريته ، ثم غلبهم عليه أخوالهم من جرهم ، ولم ينازعهم بنو إسماعيل ، لقرابتهم وإعظامهم للحرمة ، أن لا يكون بها قتال ، ثم إن جرهم بغوا في مكة ، وظلموا من دخلها ، فرق أمرهم ، فلما رأى بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة ، وغبشان من خزاعة ، أجمعوا على جرهم ، فاقتتلوا فغلبهم بنو بكر وغبشان ونفوهم من مكة .
وكانت مكة في الجاهلية لا يقر فيها ظلم ، ولا يبغي فيها أحد إلا أخرج ، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك .
ثم إن غبشان -من خزاعة- وليت البيت دون بني بكر . وقريش إذ ذاك حلول وصرم ، وبيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة . فوليت خزاعة البيت يتوارثون ذلك ، حتى كان آخرهم حليل بن حبيشة ، فتزوج قصي بن كلاب ابنته .
فلما عظم شرف قصي ، وكثر بنوه وماله ، هلك حليل ، فرأى قصي أنه أولى بالكعبة وأمر مكة ، من خزاعة وبني بكر ، وأن قريشاً رؤوس آل إسماعيل وصريحهم ، فكلم رجالاً من قريش وكنانة في إخراج خزاعة وبني بكر من مكة ، فأجابوه .
الحج في الجاهلية
وكان الغوث بن مرة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر يلي الإجازة للناس بالحج من عرفة ، وولده من بعده ، لأن أمه كانت جرهمية لا تلد ، فنذرت لله إن ولدت رجلاً : أن تتصدق به على الكعبة يخدمها ، فولدت الغوث ، فكان يقوم على الكعبة مع أخواله من جرهم ، فولي الإجازة بالناس ، لمكانه من الكعبة ، فكان إذا رفع يقول :
اللهم إني تابع تباعة إن كان إثماً فعلى قضاعة
وكانت صوفة تدفع بالناس من عرفة ، وتجيزهم إذا نفروا من منى . فإذا كان يوم النفر أتوا رمي الجمار ورجل من صوفة يرمي لهم ، لا يرمون حتى يرمي لهم ، فكان المتعجلون يأتونه يقولون : ارم حتى نرمي ، فيقول : لا والله ، حتى تميل الشمس . فإذا مالت الشمس رمى ورمى الناس معه ، فإذا فرغوا من الرمي وأرادوا النفر من منى أخذت صوفة بالجانبين ، فلم يجز أحد حتى يمروا ، ثم يخلون سبيل الناس .
فلما انقرضوا ورثهم بنو سعد بن زيد مناة من بني تميم .
وكانت الإفاضة من مزدلفة في عدوان يتوارثونها ، حتى كان آخرهم كرب بن صفوان بن جناب : الذي قام عليه الإسلام .
فلما كان ذلك العام ، فعلمت صوفة ما كانت تفعل ، قد عرفت العرب ذلك لهم ، هو دين لهم من عهد جرهم وولاية خزاعة، فأتاهم قصي بمن معه من قريش وقضاعة وكنانة عند العقبة ، فقال : نحن أولى بهذا منكم ، فقاتلوه . فاقتتل الناس قتالاً شديداً ، ثم انهزمت صوفة وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم .
وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي ، وعرفوا أنه سيمنعهم ، كما منع صوفة ، ويحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة .
فلما انحازوا بادأهم وأجمع لحربهم ، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً ، ثم تداعوا إلى الصلح ، فحكموا يعمر بن عوف ، أحد بني بكر، فقضى بينهم بأن قصياً أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة . وكل دم أصابه قصي منهم موضوع شدخه تحت قدميه ، وما أصابت خزاعة وبنو بكر ففيه الدية وأن يخلى بين قصي وبين الكعبة ، فسمي يومئذ يعمر الشداخ .