اللــــــــه الــودود
إنّ الله سبحانه و تعالى لمّا خلق الكون لمخلوقاته لم يجعله جافا بل ملأه بذلك الإحساس المرهف الذي يملأ القلب فيوجب معه الصفح قبل المصافحة و التسامح قبل العتاب و الوصل قبل الوصال و العطاء قبل الرجاء و الوفاء قبل الهجر و التضحية قبل الإنتقام ، نعم هذا هو الشعور النبيل المسمى بالحب الذي يختلج كل كل ُمحب اتجاه محبوبه سواء كان هذا المحبوب الأم أو الأب أو الإخوة أو الزوج أو الزوجة أو الأبناء أو الأهل أو الأصدقاء أو عباد الله الصالحين ، هذا هو الحب الذي يملأ قلوبنا فرحا بوجود و ُلقيا أحبابنا و ما أحلاه إن كان هذا الحب في الله ابتغاء مرضاة الله
في سردي هذا لمعنى الحب ذكرت الأرحام و لم أذكر خالق الأرحام الله سبحانه و تعالى ، أتعلمون لِما ؟
لأنّ حب الله هو أجّل من الحب البشري ، حب الله هو أبلغ من أن يطلق عليه اسم حب و إنّما هو الـــــود الذي بسببه اختار الله لنفسه أن يكون الودود بكل صفاته
الودود الذي يفهمك دون أن تشرح له و يسمعك دون أن تتكلم و يشعر باحساسك دون أن تبكي و يُصدقك دون أن تحلف و يلبي نِداءك قبل أن تناديه
هل تستطيع التفريق الآن بين الحـــــب و الــــــود ؟
إنّ الحب هو تلك المشاعر التي و الأحاسيس الداخلية التي نحملها للأخرين في قلوبنا ، أمّا الود فهو ترجمة تلك المشاعر و الأحاسيس الداخلية إلى أفعال و تصرفات ، أنا أكن لك مشاعر داخلية في قلبي و أتمنى لك الخير في حياتك فأنا أحبــك ، أمّا أن أهديك هدية أو أقف معك في الحلو و المر أو أنصحك أو أدعي لك أو أذكرك بالخير هذا وُد أي أنا أودكــ ، لهذا لم يسمي الله نفسه بالحبيـــب و إنّما سمى نفسه بالــــودود ، لأنّ الود أشمل و أعظم و أكبر من الحب ، الود أصفى الحب و أنقاه و أطهره ، فهو أعلى درجات و مستويات الحب لأنه خالٍ من الحقد
و بالتالي قد يكون كل ودود محـب غير أنه ليس كل محب يستطيع أن يكون ودود و الله المثل الأعلى في ذلك
فالودود يتحبب إلى أوليائه و عباده الصالحين بالقرب غير أنّه يتحبب أيضا لعباده المذنبين بالرحمة و المغفرة كما أنّه في نفس الوقت يتحبب إلى جميع خلقه بالعطاء و الرفق فهو القائل في حديثه القدسي : ((يا داود لو يعلم المدبرون عني شوقي لعودتهم و رغبتي في توبتهم لذابوا شوقا الي ، يا داود هذه رغبتي بالمدبرين عني فكيف محبتي للمقبلين علي ))
أ أحسست الأن بمعنى الودود ؟
الودود الذي يعلم أنّك مُحتاج للحب و الحنان بنفس مقدار احتياجك للعلم و القوّة و العزة و الفهم و الرزق فلم يكتفي الله بتغذية فكرك و جسمك بل لجأ أيضا لتغذية قلبك و روحك ، و لم يقفْ عند حدِّ توفير التغذية الروحية و الجسدية ، بل عمد إلى تسخير وُده لك في كل خلقه
أنظر للشمس و القمر و الليل و النهار و النجوم و البحر و الأشجار ، أليست لها دلالة في الحياة و هي من المفروض أن تؤدي وظيفتها لإستمرار الحياة و لكن أنظر إليها جيّدا ألا تجد أنّها غير صماء و مليئة بالحب هي الأخرى ، أترى لما ؟
أليس لأنّ الله يحبنا و يريد أن يتقرب إلينا بكل مخلوقاته ؟
وَجِه نظرك للشمس ، أليست وظيفتها الرئيسية هي الإنارة و المحافظة على درجة حرارة الأرض ، كما نستخدمها أيضا في الطاقة الشمسية ....و لكن أنظر إلى جانب الحب فيها ألا تتمتع بالنظر إلى خيوطها الذهبية المتلألئة في الظهيرة و لألوانها الجميلة البراقة عند الشروق و الغروب
وجه نظرك الأن للقمر أليست وظيفته هو أيضا الإنارة ، و لكن تمعن فيه جيّدا ألا تجد مع القمر الرقة
وجه نظرك للحيتان في الماء و ما أجمل أشكالها و ألوانها فألا تبعث في قلبك صفة الإبداع في الخلق قبل صفة توفير الطعام
و وجه نظرك للأزهار و ألوانها و أشكالها و رائحتها فألا تبعث في قلبك الراحة و الحلاوة
و وجه نظرك للطيور و للأنهار و للبحار و الشلالات و الأمواج ، انظر لشكل قوس قزح و ألوانه و أطلق العنان لنظرك و تأمل في خلق الله و ابداعاته ......ألا تحس بمدى حبه
هل ملأ الودود الأن قلبك أيّها العبد و استشعرت تجليه في كل مخلوقاته ، كيف لا و كل شيء واضح في هذا الحديث : { ما في شبر في السماء إلاّ وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد إلى يوم القيامة ، فإذا قامت الساعة قاموا من عبادتهم يقولون سبحانك ما عبدناك حق عبادتك }
إنّهم يعترفون بتقصيرهم اتجاه خالقهم و هم الذين لم ينقطعوا عن عبادته أبدا ، فكيف هي عبادتنا لله خالقنا مقارنة بعبادتهم له ؟ فهل اعترفنا يوما بتقصيرنا ؟
اسأل نفسك يا بني آدم ..يا من فضّلك الله عن كل مخلوقاته ، كيف هو اللـــه في قلبك ؟ و هو الذي يحبك بالرغم من كونك أصغر مخلوقاته حجما مقارنة بحجم السماوات و الأرض ، تأمل في حجمك الصغير و في مقدار حب الله الكبير لك ؟
أتعلم يا بني آدم أنّ ما السماء الأولى في السماء الثانية إلاّ كحبة في صحراء و ما الثانية في الثالثة إلاّ كحبة في صحراء و ما الثالثة في الرابعة إلاّ كحبة في صحراء و ما الرابعة في الخامسة إلاّ كحبة في صحراء و ما الخامسة في السادسة إلاّ كحبة في صحراء و ما السادسة في السابعة إلاّ كحبة في صحراء و ما السابعة في العرش إلاّ كحبة في صحراء و ما العرش في الكرسي إلاّ كحبة في صحراء ، وسع كرسيه السماوات و الأرض، فأين أنــــت من كل هــــذا ؟
أتأملت الأن حجمك يا بني آدم و أدركت كم أنّك صغير جدا مقارنة بكل هذا ، فما هو حجمك أنت لن أقول لك مقارنة بحجم السماوات و العرش و الكرسي و إنّما قارن حجمك بالصحراء ، ألست صغير جدا ؟ نعم صغير جدا جدا جدا و بالرغم من ذلك فهو يحبك و سمى نفسه الودود من أجلك ، لِما يا ترى قد يفعل كل هذا و هو غني عن حبك و غنيُُّ عن عبادتك ؟ أليس لأنّك غالي عليه كيف لا و هو القائل في حديثه القدسي : ((إذا تقرب العبد إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة))
هل تستطيع الأن معرفة إن كان الودود موجود بقلبك ؟ ، اسأل نفسك كم مرّة بكيت و كم مرّة خشعت و كم مرّة قلت أحبك يا رب ، و كم مرّة أحسست بقرب الله و حنانه ، إنّ من لم يشعر بذلك فهو إمّا أن يكون الله يتودد إليه و هو لم ينتبه بعد و هذه مشكلة و إمّا أنّ الله لا يتودد إليه لأنّه لا يستحق ذلك و هذه مصيبة ، و لكن تأكد أيّها العبد أنّك إذا رجعت إلى الله و قلت له يا ودود من لي سواك سيفتح لك أبوابه و يستقبلك بكل حـــب و وُد .
تَعلّم يا بني آدم أن تذهب للودود لِتُكلمَه فهناك فرق بين الدعاء الذي تلتمسه من ربّك و بين الفضفضة و الشكوى التي تتقرب بها من ربّك ، أُنظر فقط لنفسك عندما تكون مهموم ألا تفضل الذهاب إلى أحب الناس إليك لتشكو له همّك و تفضفض له ليقاسمك بعض همومك و يزيل عنك ، فلما لا تُجرّب الذهاب إلى الودود لتشكو له همّك ، لما لا تقتدي برسولك محمد صلى الله عليه و سلم و عباد الله الصالحين في رجوعك إلى الودود ؟
تأمّل في سيرة النبي صلى الله عليه و سلم وقتها ستتبيّن أثر وجود الودود في حياته ، تبيّن ذلك في غار حراء الذي جعله الله على شكل حضن ليحسّ النبي صلى الله عليه و سلم بقرب الله منه ، و تبيّن ذلك أيضا عند انقطاع نزول الوحي على النبي صلى الله عليه و سلم مدّة 6 أشهر و صخريات أهل قريش من النبي بقولهم له لقد قلاك ربّك و تركك ، فتلاقاه الودود في قوله : (( و الضحى و الليل إذا سجى ما ودّعك ربّك و ما قلا )) ، و تبيّن ذلك عندما عيّرت قريش النبي صلى الله عليه و سلم بالأبتر فأكرمه الودود بسورة الكوثر و نهر الكوثر في قوله : (( إنّ أعطيناك الكوثر فصلي لربّك و انحر إنّ شانئك هو الأبتر )) ، و تبيّن ذلك أيضا في رحلة النبي إلى الطائف و ما تلقاه من أذى و هو بها فدعا ربّه قائلا : " اللهم انى اشكو اليك ضعف قوتى و قلة حيلتى و هوانى على الناس انت رب المستضعفين و انت ربى الى من تكلنى الى بعيد يتجهمنى ام الى عدو ملكته امرى ان لم يكن بك على غضب فلا أُبالى أعوذ بنور وجهك الذى أضاءت له الظلمات و صلح عليه أمر الدنيا و الأخرة من أن ُتنزل بى غضبك أو يحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى و لا حول ولا قوة إلا بك"
فتلقاه يومها الودود أيضا بوّده و أنزل له جبريل و ملك الجبال و لاقاه بطائفة من الجن أسلموا بين يديه ، و غيرها كثير من المواقف التي مرت على الرسول صلى الله عليه و سلم تلتمس فيها أثر الودود في حياته
و تأمل في قصة السيدة أم مريم التي ناجت ربّها الودود أن يرزقها ولدا يحرر الأقصى فرزقها مريم التي أنجبت سيدنا عيسى عليه السلام ، و تأمل في قصة زكرياء عليه السلام الذي ناجى ربّه فرزقه بيحي بعد أن وهن عظمه ، و تأمل في قصة سيدنا يونس عليه السلام الذي ناجى ربّه في بطن الحوت فنجاه الودود ، و تأمل في قصة سيدنا موسى عليه السلام الذي ناجى ربه الودو فأنجاه و أغرق فرعون و آله ، و تأمل في قصة سيدنا أيوب عليه السلام الذي ناجى ربّه الودود ففرج عنه بلاءه ،و ......و تأمل في قصص القرآن أيست فيها العبر التي تُعرّفك على الله الــــــودود ؟ نعم الودود الذي يُحب أن تذهب إليه ، فهل تستطيع أن تفعل ذلك و تذهب للودود بكل ثِقــــــة ؟ تخيّل نفسك أنّ الودود يعرفك باسمك و يُباهي بك ملائكته ، كيف هو شعورك ؟ أتستطيع أن تصفه أو تُقدره ، بالنسبة لي لا أظن ذلك لأنه لا يوجد شيء أعيش له في هذه الدنيا غير الله و إدراك حبه .
اسأل نفسك فقط إذا التقيت داعية مشهور قد كان سببا في عودتك إلى الله ألا تفرح بلقياه و تحب أن تأخذ منه ذكرى ِلكَيْ تتباهى بها أمام أهلك و معارفك و تخيّل فرحتك العارمة إذا كتب لك شيئا للذكرى ختمها بكلمتيْ مع حبــــي و تقديري ألا تفرحْ ؟ ، و تخيّل أيضا أنّ هذا الداعية أو ملك من الملوك تكلم في غيبتك بالخير و مدحك ، ألا تعمّك الغبطة و تسأل عن كلِ ما قيل عنك بالتفصيل المُمِلْ ، و ستتذكر هذه الحادثة دائما و تحكيها للجميع ، فكيف بك إن كان من يتحدث في غيبتك هو الله ، يُباهي بك ملائكته بالغيب و في العلن فينادي على جبريل و يقول له : (( يا جبريل إني أحب فلان فأحبّه ، فينادي جبريل في أهل السماء يا أهل السماء إنّ الله يحب فلان فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يُوضع له القبول في الأرض )) ، أليس هذا هو الـــــــوُد بعينه ؟ أليست الفرحة لا توصف ، فلما لا نعيش لإتيان و تحقيق هذه الفرحة بذكرنا للودود و ذهابــــــنا إليه ؟ كيف لا و هو القائل : (( من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، و من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه )) و قوله أيضا : (( أنا مع عبدي ما ذكرني و تحركت بي شفتاه )).
فاستوحي أيّها العبد تجلي اسم الله الودود في قوله : (( قلوبهم كقلب واحد )) ، و قوله أيضا : (( على سرر متقابلين )) أتعلم أنه يتحدث عن الإخوة في الله الذين يلتقون في الجنة ، أترانا قد نلتقي في الجنة و نكون على سرر متقابلين و يكون قلبنا كقلب واحد ؟ نسأل الله أن يجمعنا في الجنة مثلما جمعنا في الدنيا ..
.أترى كيف هي حالة أهل الجنة ؟
لقد وصف النبي صلى الله عليه و سلم أهل الجنة فقال إن ّ آخر من يدخل الجنة رجل يمشي على الصراط. فهو يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة ، و هكذا يفعل 3 مرات فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال : تبارك الذي نجاني منك لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين فترفع له شجرة فيقول : أي رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها وأشرب من مائها ،فيقول الله عز وجل : يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها ،فيقول : لا يا رب ويعاهده أن لا يسأله غيرها وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها .فيستظل بظلها ويشرب من مائها ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى فيقول :أي رب أدنني من هذه لأشرب من مائها وأستظل بظلها لا أسألك غيرها ،فيقول : يا ابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها
فيقول : لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها فيعاهده أن لا يسأله غيرها وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها فيستظل بظلها ويشرب من مائها ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين فيقول أي رب أدنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها و لا أسألك غيرها ،فيقول : يا ابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها ،فيقول : بلى يا رب هذه لا أسألك غيرها وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليها
فيدنيه منها فإذا أدناه منها ، فيسمع أصوات أهل الجنة ، فيقول :أي رب أدخلنيه، فيقول الله عز وجل له: أما ترضى أن يكون لك مثل مُلك أعظم ملك من ملوك الدنيا فيقول: يا رب لا تهزأ بي وأنت رب العالمين. فيقول له الله عز وجل: لك مثل مُلك أعظم ملك من ملوك الدنيا ومثله ومثله ومثله و مثله و مثله
فيقول العبد في الخامسة: رضيت يا رب رضيت يا رب. فيقول له الله عز وجل: لك مثل مُلك أعظم ملك من ملوك الدنيا وعشرة أمثال. ولك فيها ما اشتهيت وتمنت عينك وأنت فيها خالد. فادخلها و خذ ما أعطيتك
كم أنت عظيم و كريم و ودود يالله كل هذا لأخر أهل الجنة فما هو نصيب أعلى أهل الجنة منزلة ؟ هؤلاء قال عنهم النبي صلى الله عليه و سلم أنّ الله سيزرع كرامتهم بيديه ، فاللهم لا تحرمنا من دخول جنتك
فنملأ قلوبنا بحب الله و لنذهب إليه بودنا طالبين وُده جازمين كل الجزم على أنّ الله ودود في نفسه يتودد الينا متى قصدناه
فالحمد لله على الله الودود ملىء الود الذي وُجد بين الخالق و الخلق و المخلوقات