حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة قال أخبرني عبد الله بن عبد الله بن جبر قال سمعت أنسا
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
قَوْله : ( حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيد )
هُوَ الطَّيَالِسِيّ
قَوْله : ( جَبْر )
بِفَتْحِ الْجِيم وَسُكُون الْمُوَحَّدَة , وَهُوَ اِبْن عَتِيك الْأَنْصَارِيّ , وَهَذَا الرَّاوِي مِمَّنْ وَافَقَ اِسْمه اِسْم أَبِيهِ . .
قَوْله : ( آيَة الْإِيمَان )
هُوَ بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَة وَيَاء تَحْتَانِيَّة مَفْتُوحَة وَهَاء تَأْنِيث , وَالْإِيمَان مَجْرُور بِالْإِضَافَةِ , هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَد فِي ضَبْط هَذِهِ الْكَلِمَة فِي جَمِيع الرِّوَايَات , فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَن وَالْمُسْتَخْرَجَات وَالْمَسَانِيد . وَالْآيَة : الْعَلَامَة كَمَا تَرْجَمَ بِهِ الْمُصَنِّف , وَوَقَعَ فِي إِعْرَاب الْحَدِيث لِأَبِي الْبَقَاء الْعُكْبَرِيّ " إِنَّهُ الْإِيمَان " بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَة وَنُون مُشَدَّدَة وَهَاء , وَالْإِيمَان مَرْفُوع , وَأَعْرَبَهُ فَقَالَ : إِنَّ لِلتَّأْكِيدِ , وَالْهَاء ضَمِير الشَّأْن , وَالْإِيمَان مُبْتَدَأ وَمَا بَعْده خَبَر , وَيَكُون التَّقْدِير : إِنَّ الشَّأْن الْإِيمَان حُبّ الْأَنْصَار . وَهَذَا تَصْحِيف مِنْهُ . ثُمَّ فِيهِ نَظَر مِنْ جِهَة الْمَعْنَى لِأَنَّهُ يَقْتَضِي حَصْر الْإِيمَان فِي حُبّ الْأَنْصَار , وَلَيْسَ كَذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : وَاللَّفْظ الْمَشْهُور أَيْضًا يَقْتَضِي الْحَصْر , وَكَذَا مَا أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّف فِي فَضَائِل الْأَنْصَار مِنْ حَدِيث الْبَرَاء بْن عَازِب " الْأَنْصَار لَا يُحِبّهُمْ إِلَّا مُؤْمِن " , فَالْجَوَاب عَنْ الْأَوَّل أَنَّ الْعَلَامَة كَالْخَاصَّةِ تَطَّرِد وَلَا تَنْعَكِس , فَإِنْ أُخِذَ مِنْ طَرِيق الْمَفْهُوم فَهُوَ مَفْهُوم لَقَب لَا عِبْرَة بِهِ . سَلَّمْنَا الْحَصْر لَكِنَّهُ لَيْسَ حَقِيقِيًّا بَلْ اِدِّعَائِيًّا لِلْمُبَالَغَةِ , أَوْ هُوَ حَقِيقِيّ لَكِنَّهُ خَاصّ بِمَنْ أَبْغَضَهُمْ مِنْ حَيْثُ النُّصْرَة . وَالْجَوَاب عَنْ الثَّانِي أَنَّ غَايَته أَنْ لَا يَقَع حُبّ الْأَنْصَار إِلَّا لِمُؤْمِنٍ . وَلَيْسَ فِيهِ نَفْي الْإِيمَان عَمَّنْ لَمْ يَقَع مِنْهُ ذَلِكَ , بَلْ فِيهِ أَنَّ غَيْر الْمُؤْمِن لَا يُحِبّهُمْ . فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى الشِّقّ الثَّانِي هَلْ يَكُون مَنْ أَبْغَضَهُمْ مُنَافِقًا وَإِنْ صَدَقَ وَأَقَرَّ ؟ فَالْجَوَاب أَنَّ ظَاهِر اللَّفْظ يَقْتَضِيه ; لَكِنَّهُ غَيْر مُرَاد , فَيُحْمَل عَلَى تَقْيِيد الْبُغْض بِالْجِهَةِ , فَمَنْ أَبْغَضَهُمْ مِنْ جِهَة هَذِهِ الصِّفَة - وَهِيَ كَوْنهمْ نَصَرُوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَثَّرَ ذَلِكَ فِي تَصْدِيقه فَيَصِحّ أَنَّهُ مُنَافِق . وَيُقَرِّب هَذَا الْحَمْل زِيَادَة أَبِي نُعَيْم فِي الْمُسْتَخْرَج فِي حَدِيث الْبَرَاء بْن عَازِب " مَنْ أَحَبَّ الْأَنْصَار فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ , وَمَنْ أَبْغَضَ الْأَنْصَار فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ " , وَيَأْتِي مِثْل هَذَا الْحُبّ كَمَا سَبَقَ . وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد رَفَعَهُ " لَا يَبْغَض الْأَنْصَار رَجُل يُؤْمِن بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر " , وَلِأَحْمَد مِنْ حَدِيثه " حُبّ الْأَنْصَار إِيمَان وَبُغْضهمْ نِفَاق " . وَيُحْتَمَل أَنْ يُقَال إِنَّ اللَّفْظ خَرَجَ عَلَى مَعْنَى التَّحْذِير فَلَا يُرَاد ظَاهِره , وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُقَابِل الْإِيمَان بِالْكُفْرِ الَّذِي هُوَ ضِدّه , بَلْ قَابَلَهُ بِالنِّفَاقِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ التَّرْغِيب وَالتَّرْهِيب إِنَّمَا خُوطِبَ بِهِ مَنْ يُظْهِر الْإِيمَان , أَمَّا مَنْ يُظْهِر الْكُفْر فَلَا ; لِأَنَّهُ مُرْتَكِب مَا هُوَ أَشَدّ مِنْ ذَلِكَ .
قَوْله : ( الْأَنْصَار )
هُوَ جَمْع نَاصِر كَأَصْحَاب وَصَاحِب , أَوْ جَمْع نَصِير كَأَشْرَافٍ وَشَرِيف , وَاللَّام فِيهِ لِلْعَهْدِ أَيْ : أَنْصَار رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَالْمُرَاد الْأَوْس وَالْخَزْرَج , وَكَانُوا قَبْل ذَلِكَ يُعْرَفُونَ بِبَنِي قَيْلَة بِقَافٍ مَفْتُوحَة وَيَاء تَحْتَانِيَّة سَاكِنَة وَهِيَ الْأُمّ الَّتِي تَجْمَع الْقَبِيلَتَيْنِ , فَسَمَّاهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْأَنْصَار " فَصَارَ ذَلِكَ عَلَمًا عَلَيْهِمْ , وَأُطْلِقَ أَيْضًا عَلَى أَوْلَادهمْ وَحُلَفَائِهِمْ وَمَوَالِيهمْ . وَخُصُّوا بِهَذِهِ الْمَنْقَبَة الْعُظْمَى لِمَا فَازُوا بِهِ دُون غَيْرهمْ مِنْ الْقَبَائِل مِنْ إِيوَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ وَالْقِيَام بِأَمْرِهِمْ وَمُوَاسَاتهمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالهمْ وَإِيثَارهمْ إِيَّاهُمْ فِي كَثِير مِنْ الْأُمُور عَلَى أَنْفُسهمْ , فَكَانَ صَنِيعهمْ لِذَلِكَ مُوجِبًا لِمُعَادَاتِهِمْ جَمِيع الْفِرَق الْمَوْجُودِينَ مِنْ عَرَب وَعَجَم , وَالْعَدَاوَة تَجُرّ الْبُغْض , ثُمَّ كَانَ مَا اِخْتَصُّوا بِهِ مِمَّا ذُكِرَ مُوجِبًا لِلْحَسَدِ , وَالْحَسَد يَجُرّ الْبُغْض , فَلِهَذَا جَاءَ التَّحْذِير مِنْ بُغْضهمْ وَالتَّرْغِيب فِي حُبّهمْ حَتَّى جُعِلَ ذَلِكَ آيَة الْإِيمَان وَالنِّفَاق , تَنْوِيهًا بِعَظِيمِ فَضْلهمْ , وَتَنْبِيهًا عَلَى كَرِيم فِعْلهمْ , وَإِنْ كَانَ مَنْ شَارَكَهُمْ فِي مَعْنَى ذَلِكَ مُشَارِكًا لَهُمْ فِي الْفَضْل الْمَذْكُور كُلٌّ بِقِسْطِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَلِيّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ " لَا يُحِبّك إِلَّا مُؤْمِن وَلَا يَبْغَضك إِلَّا مُنَافِق " , وَهَذَا جَارٍ بِاطِّرَادٍ فِي أَعْيَان الصَّحَابَة , لِتَحَقُّقِ مُشْتَرَك الْإِكْرَام , لِمَا لَهُمْ مِنْ حُسْن الْغِنَاء فِي الدِّين . قَالَ صَاحِب الْمُفْهِم : وَأَمَّا الْحُرُوب الْوَاقِعَة بَيْنهمْ فَإِنْ وَقَعَ مِنْ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ فَذَاكَ مِنْ غَيْر هَذِهِ الْجِهَة , بَلْ الْأَمْر الطَّارِئ الَّذِي اِقْتَضَى الْمُخَالَفَة , وَلِذَلِكَ لَمْ يَحْكُم بَعْضهمْ عَلَى بَعْض بِالنِّفَاقِ , وَإِنَّمَا كَانَ حَالهمْ فِي ذَاكَ حَال الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَحْكَام : لِلْمُصِيبِ أَجْرَانِ وَلِلْمُخْطِئِ أَجْر وَاحِد . وَاَللَّه أَعْلَم .