حماية البيئة.. فريضة شرعية*
الغابات تصرخ من القطع الجائر وحرق أشجارها
أصبحت قضية البيئة بمشكلاتها المتعددة بدءا من تلوثها، واستنزاف مواردها،
وصولاً إلى الإخلال بتوازنها، حديث العالم كله، حتى قال بعض الباحثين: لو
كان للبيئة لسان ينطق، لصكت أسماعنا صرخات الغابات الاستوائية التي تحرق
عمدا في الأمازون، وأنين المياه التي تخنقها بقع الزيت في الخلجان
والبحار، وحشرجة الهواء المختنق بغازات الدفيئة والرصاص في المدن الكبرى.
وفي مساهمة لتجلية النظرة الإسلامية إلى البيئة وإصلاحها والمحافظة عليها
فكرا وتطبيقا أتى كتاب "رعاية البيئة في شريعة الإسلام" للدكتور يوسف
القرضاوي، ليوضح الموقف الإسلامي الأصيل القديم من القضية البيئية.
وقد احتوى الكتاب الذي يقع في 258 صفحة على حشد كبير من النصوص القرآنية
والأحاديث النبوية والآراء الفقهية في شأن رعاية البيئة، والكتاب في
حقيقته هو بحث تقدم به الكاتب إلى "المنتدى العالمي للبيئة من منظور
إسلامي" والذي انعقد في مدينة الرياض السعودية عام 2000، ويتكون الكتاب من
مقدمة وتمهيد و6 فصول.
ولتوصيف رؤية الإسلام للبيئة يقول الدكتور القرضاوي: إن البيئة خُلقت
مهيأة لتحقيق مصلحة الإنسان وتوفير حاجاته، وإن الله تعالى خلقها بطريقة
تفرض عليها أن تتكامل وتتعاون مع بعضها البعض، ومن ثم فالحفاظ على أن يؤدي
كلٌّ من مكونات البيئة دوره المنوط به يعتبر أمرا شرعيا، وذلك حتى لا يحدث
خلل في الكون.
والناظر إلى الإسلام عقيدة وشريعة يجد أن رعاية البيئة تتصل بعدد من
العلوم الإسلامية، وفي مقدمتها علم أصول الدين الذي يرى أن البيئة مخلوقة
مثل الإنسان وأنها مكلفة بالسجود لله تعالي وتسبيحه ولكن بطريقة يعلمها
الله تعالى، فالإنسان ليس إلها في الكون ولكنه مخلوق مثل بقية الأشياء
المحيطة به، إلا أن الإنسان مميز عليها بالعقل وبالإرادة.
وينطلق من هذه الرؤية الفلسفية الإسلامية للكون أمور أخرى، منها ضرورة ألا
يفسد الإنسان الكون من حوله، وضرورة أن ينشر في الكون الخير والصلاح
بمفهومه الشامل وأن يعمر الأرض بإحياء مواتها واستصلاح أراضيها.
لا ضرر ولا ضرار
وترتبط رعاية البيئة بعلم السلوك في الإسلام على اعتبار أن الدين في
حقيقته هو السلوك والخلق، ولذا أعلنت النصوص الإسلامية الصريحة أن امرأة
دخلت النار في قطة حبستها، وأن رجلا دخل الجنة في كلب سقاه بعدما رأى ما
فيه من شدة العطش.
بل إن الإسلام نظر إلى الأمور البيئية نظر ود وحب، فجعل القرآن الكريم
الحيوانات والطيور أمما مثل أمة الإنسان، ونص القرآن الكريم أن الشجر
والدواب والجبال والنجوم تسجد لله تعالي مثل الإنسان المؤمن وأنها تسبح
ربها.
ويرى علماء الأخلاق المسلمون الكون (البيئة) على أنه آية من آيات الله
تستوجب من الإنسان التفكر فيها، وأنه نعمة تستوجب الشكر والمحافظة عليه
والاستمتاع بعنصر الجمال فيه وتنمية هذا الجمال؛ لأن كل شيء في البيئة من
الضروري أن يظهر فيه بديع صنع الخالق سبحانه.
أما علم الفقه وأصوله فقد ارتبطا بالشأن البيئي ارتباطا كبيرا في حالة
السلم والحرب على حد سواء، ووضع الفقهاء عددا من القواعد التي تنظم هذا
الأمر مثل قاعدة "لا ضرر ولا ضرار"، وأن الشرع أتاح لولي الأمر فرض بعض
العقوبات التعزيرية التي من الممكن اللجوء إليها في عصرنا الحالي لمن
يسيئون إلى البيئة.
وأشار الدكتور القرضاوي إلى أن المحافظة على البيئة داخلة في مقاصد
الشريعة الخمسة وهي حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال، فإفساد البيئة
إضاعة لمقاصد الشريعة الإسلامية.
الركائز الإسلامية لرعاية البيئة
تلويث الموارد والإسراف في استخدامها إفساد في الأرض
وقد تناول د. القرضاوي في بحثه ركائز أساسية لرعاية البيئة منها:
التشجير والتخضير: فهناك آيات وأحاديث كثيرة تحض على الغرس والزرع، يقول
النبي صلى الله عليه وسلم "من نصب شجرة، فصبر على حفظها والقيام عليها حتى
تثمر، فإن له في كل شيء يصاب من ثمرها صدقة عند الله عز وجل" (رواه أحمد).
العمارة والتثمير: ويأتي في مقدمتها إحياء الأرض الموات وتثمير الثروات
وتنمية الموارد، ولذا اعتبر الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه "الذريعة
إلى مكارم الشريعة" أن عمارة الأرض أحد مقاصد خلق الإنسان، ولذا كان
الحديث النبوي "من أحيا أرضا ميتة فهي له" (رواه أبو داود)، حتى إن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه انتزع أرضا كانت مقطوعة إلى رجل يسمى "بلال بن الحارث
المزني" لأنه لم يستطع أن يعمرها كلها.
النظافة والتطهير: على اعتبار أن الطهارة من شروط بعض العبادات خاصة
الصلاة، ولذا شاعت بين المسلمين مقولة "النظافة من الإيمان" وأوردت السنة
النبوية آدابا كثيرة في النظافة والاغتسال والتطيب وحسن الهندام خاصة في
المناسبات العامة كصلاة الجمعة والعيدين، وحثت على إماطة الأذى عن الطريق.
المحافظة على الموارد: يقول تعالى "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها
"(الأعراف :56) والإفساد يكون بالإتلاف وتفويت المنافع أو التلويث
والإسراف، أو بإشاعة الظلم والباطل والشر، ولذا نهى النبي صلى الله عليه
وسلم رجلا أن يذبح له شاة حلوبا. وفي السنة إنذار لمن يقتل طيرا أو حيوانا
بغير منفعة أو يتخذ شيئا فيه روح هدفا للتصويب عليه، كما أن بها حثا على
الاستفادة بجلد الميتة.
الحفاظ على صحة الإنسان: وهناك حشد كبير من النصوص الإسلامية من قرآن وسنة
يدعو إلى الحفاظ على الصحة بدءا من الدعاء بطلب العافية ومرورا بالوسائل
التي تجلب العافية وتحافظ على سلامة البدن وحتى التعامل الإيجابي مع المرض
في حالة وقوعه والمحافظة على البيئة حتى لا تنتقل عدوى المرض إلى الآخرين.
الإحسان إلى البيئة: والإحسان كلمة تتضمن الإتقان والشفقة والإكرام، فقد
كان النبي صلى الله عليه وسلم يُميل للقطة الإناء حتى تشرب ثم يتوضأ
بفضلها، وكان بعض الخلفاء مثل عمر بن عبد العزيز يكتب إلى عماله ألا
يُحمّلوا الإبل فوق ما لا تطيق وألا يضربوها بالحديد.
ومن روائع حديث فقهاء المسلمين في الإحسان إلى الطير ما كتبه العلامة
المغربي "أبو علي بن رحال" من ضرورة أن يتفقد الإنسان الطير الذي يحبسه
كما يتفقد أولاده، وأن يضع لهذا الطير خشبة ليركب عليها الطائر حتى لا يضر
الوقوف على الأرض بالطائر (لاحظ هنا مراعاة البعد النفسي والبيئي للطائر
في شريعة الإسلام).
المحافظة على البيئة من الإتلاف: ونهى الإسلام عن الإتلاف البيئي للأحياء
والنباتات والعمران سواء كان ذلك بدافع القسوة أو الغضب أو العبث أو
الإهمال أو في العمليات الحربية؛ لذا كان المؤرخ الفرنسي "جوستاف لوبون"
يقول: "ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب" ومن يتابع الجرائم
الأمريكية في فيتنام والعراق يتأكد من رحمة المسلمين بغيرهم وبالبيئة
أثناء العمليات العسكرية والحروب.
رعاية البيئة واقع تاريخي
وعبر بحثه تناول القرضاوي عددا من الوقائع التاريخية في الاهتمام الإسلامي
بالبيئة، منها وجود مؤسسات لرعايتها في بعض الفترات، حيث إنها لم تترك
لضمير الفرد فقط، ومن هذه المؤسسات مؤسسة الحسبة التي كانت تقوم بواجب
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع.
ومن الكتب التي صدرت في هذا الأمر كتاب "نهاية الرتبة في طلب الحسبة"
للشيزري، ومما ذكره هذا الكتاب في شأن المراقبة على الخبازين ما ملخصه:
ضرورة رفع أسقف الحوانيت وأن يصمم فيها منافذ لتسريب الدخان حتى لا يتضرر
الناس، وأن يقوم الخباز بمسح الفرن بخرقة نظيفة قبل وضع العجين فيه، وأن
تنظف أوعية العجين جيدا بالماء، وألا يعجن العجان برجليه الدقيق لأن في
ذلك مهانة للطعام، وأن يضع العجان على فمه كمامة حتى لا يعطس في العجين،
وأن يشد على جبينه عصابة حتى لا يسقط عرقه أثناء العجين، وأن يُخصص له شخص
بمنشّة حتى يطرد عنه الذباب إذا كان يعجن بالنهار.
وسائل معاصرة لحماية البيئة
وعرض القرضاوي عددا من الوسائل المعاصرة التي يمكن استخدامها لحماية
البيئة ورعايتها، منها: تربية النشء على الوعي البيئي، وتبصيره بحقيقة
الموقف الإسلامي الأصيل من البيئة ورعايتها، وتثقيف الجماهير عبر وسائل
التثقيف المختلفة، وإيقاظ الضمير الديني في رعاية البيئة.
كما أشار إلى ضرورة إتاحة الفرصة أمام الضمير الاجتماعي المتمثل في الرأي
العام ليمارس دوره في هذا الشأن، مع سن بعض القوانين والتشريعات التي
تحافظ على البيئة من عبث العابثين، بالإضافة إلى إيجاد قنوات من التعاون
الفعال مع المؤسسات الدولية والإقليمية المهتمة بالبيئة.