رمضانيات
(10)
أخبار البكـّائين
عيون الأخبار لابن قتيبة الدينوريّ رحمه الله كنز من
كنوز الادب والعلم ، كثيراً ما ألجأ إلى رياضه أتجول بين بستان وحديقة ، وقطيفة
وأيكة . فما يزال يُمدّني بالحكم والمواعظ والشعر والأدب والفكرة والخاطرة
.
قرأت اليوم من إحدى روضات زهدياته ، فأحببت أن أنقل لكم بعض حِكمها وعظاتها
:
- كان زيد الرقاشي يخاطب نفسه قائلاً : ويحك يايزيد ؛ من يصوم عنك ؟ من يصلّي
عنك ؟ ومنذا يترضّى لك ربك من بعدك؟ ثم يقول : يا معشرَ مَنِ الموتُ موعدُه ،
والقبر بيتُه ؛ ألا تبكون؟ ! .. فيبكي حتى تسقط أشفار عينيه .
- وكان سيّار بن
جعفر يقول : أخوك مَن وعظك برؤيته قبل أن يعظك بكلامه .
- وتكلم الحسن البصري
يوماً حتى أبكى مَن حوله ، فقال: عجيجٌ كعجيج النساء ، ولا عزم ، وخدعة كخدعة إخوة
يوسف جاءوا أباهم عشاء وهم يبكون ؟ . ( والعجيج : الصياح ورفع الصوت ) .
- فقد
مالك بن دينار مصحفه في مجلسه ، فنظر إليهم كلّهم يبكون ، فقال : كلّكم يبكي ! فمن
سرق المصحف ؟! ... قرأت ماقاله ، فابتسمت ابتسامة الموافق تعجّبـَه ، فقد صلينا
التراويح في مسجد حينا أمس الأول فلما أردت الخروج لم أجد حذائي ، وهذه ثالث مرة أو
رابعها أفقده . وعدت إلى البيت حافياً .. واشتريت حذاءً يزهد الناس فيه .
- قال
ابن الحواريّ : رأيت أبا سليمان الداراني يبكي ، فقلت له : ما يبكيك ؟ قال : إنما
أبكي لذلك الغمّ الذي ليس فيه فرح ، وذلك الأمد الذي ليس له انقطاع .
- قال
بعضهم : أتيت الشام ، فمررت بدير حَرمَلة ، وبه راهب كأن عينيه عِدلا مزاد ؛ فقلت :
ما يُبكيك ؟ قال : يا مسلم ؛ أبكي على ما فرّطْتُ فيه من عمري ، وعلى يوم مضى من
أجَلي لم يَحْسُن به عملي . قال : ثم مررت بعد ذلك ، فسألتُ عنه ، فقالوا : أسلمَ ،
وغزا ، فقـُتـِل في بلاد الروم .
- قال ابن الحواريّ : دخلت على أبي سليمان
الدارانيّ وهو يبكي ، فقلت : ما يُبكيك ؟ قال : يا أحمد ؛ إنه إذا جنّ الليل ،
وهدأت العيون ، وأنِس كل خليل بخليله فرَش أهل المحبّة أقدامَهم ، وجرَتْ دموعُهم
على خدودهم ، وأشرف عليهم الجليل فقال : بعيني مَنْ تلذّذ بكلامي واستراح إليّ ،
فما هذا البكاء الذي أراه منكم؟ هل أخبركم أحد أن حبيباً يعذّب أحبّاءَه ؟! أم كيف
أبّيِّتُ قوماً وعند البيات أجدهم وقوفاً يتملّقونني ! فبي حلفتُ أن أكشف لهم يوم
القيامة عن وجهي ينظرون إليّ .
- قالت الخنساء : كنت أبكي لصخر من القتل ، فأنا
أبكي له اليوم من النار.
- قال عمر بن ذدٍّ لأبيه : يا أبَتِ ؛ ما لك إذا
تكلّمتَ أبكيت الناس ، وإذا تكلّم غيرُك لم يُبكِهم ؟ فقال : يا بنيّ ؛ ليست
النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة .
- قال الفضيل لأحد تلامذته وقد أخذ بيده
: يا ولدي ؛ كذب مَن الدّعى محبتي وإذا جنّ ليلُه نام عنّي ، أليس كل حبيب يحبّ
خَلوةَ حبيبه ؟! ها أنَذا مطّلع على أحبائي ، إذا جنّ الليل جعلتُ أبصارهم في
قلوبهم ، مثّلت نفسي بين أعينهم ، فخاطبوني على المشاهدة ، وكلّموني على الحضور .
- وفي بعض ما أوحى الله إلى نبيّ من أنبيائه : هبْ لي مِن قلبك الخشوعَ ، ومن
بدنك الخضوعَ ، ومن عينك الدموعَ ، وادْعُني ، فإنّي قريب .
- وكان عمر رضي
الله عنه يقول : استغزِروا العيونَ بالتذكّر .
- ومسك الختام قول النبي صلى
الله عليه وسلم : " عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس
في سبيل الله " .